الدين والحرية الشخصية
بحث آية الله السيد محمد باقر السيستاني حفظه الله
كان الكلام في علاقة الدين بالمحاور التي تهم الإنسان، وقد تقدم الكلام حول المحاور الستة الأولى: التي تتحدث عن علاقة الدين بكل من: العقلانية العامة، والعلم، والإلهام، والحكمة، والأخلاق، والسعادة..
المحور السابع: الدين والحرّيّة الشخصيّة
وهذا المحور مما يتصل بالمحور السابق - محور الدين والسعادة - ؛ لأن شعور الإنسان بالحرية الشخصية في ممارساته في الحياة من جملة أهم عوامل الشعور بالسعادة.. حتى أن الإنسان قد لا يتأ ذى بالوقوع في بعض الأضرار إذا كانت نتيجة خياراته هو كما يتأ ذى بالحجْر عليه في تلك التصرفات ومنعه منها ؛ولذا نجد أن الوالدين قد يتركان الولد حراً - وإن علما بوقوعه في بعض الأخطاء من جهة عدم خبرته في أمور الحياة- ؛ حتى لا يشعر بالضيق، و حتى يجرب بنفسه الأمور في غير ما يكون خطيراً جداً .. فإنه لا محيص لكل امرئ في هذه الحياة من أن يجرب بعض الأمور بنفسه.
وعليه: يقع السؤال عن علاقة الدين بالحريات الشخصية..
مدى تحديد الدين للحرّ يّات الشخصيّة بما ينافي القانون الفطريّ
وقد يُظنّ : أن المنهج التشريعي في الدين يخالف القانون الفطري؛ وذلك لأ ن من المفترض - بحسب هذا القانون - أن يُترك المرء حراً في هذه الحياة من حيث اختياراته الشخصية، و يُقتصر فيما يُلزم به على عدم تجاوزه على الآخرين فحسب.
ولكننا نجد أن الدين يقيد الحريات الشخصية للإنسان كثيراً ، فيما لا مساس له بالإخلال بحقوق الآخرين؛ وذلك بملاحظة أمرين:
1- إلزامه بأمور عديدة لا مساس في تركه لها بحقوق الآخرين.. مثل: مقتضيات العفاف، كمنع المرأة من أن تظهر بمظهر الإغراء أمام الرجال، أو منع العلاقة غير المشروعة بينهما - ولو كان عن رضى منهما - .
2- انه لم يجعل هذا الإلزام إلزاماً أخلاقياً محضاً ؛ بل جعله إلزاماً قانونيا مقروناً بالإجبار العمليّ على مراعاته.
وإذا قُدِّر أن هناك موجباً للإلزام الشرعيّ بالا تجاه الصائب في مجال تلك الأمور فإنه يمكن الاقتصار على تكليفه بها من دون إجباره العمليّ على مراعاتها في هذه الحياة؛ بل يُقتصر على ما يلقاه من تبعات عمله في عالم الآخرة.
وهذا الانطباع ليس دقيقا ؛ وذلك أنّه لا شك في أن الحرية على الإجمال حاجة فطرية إنسانية، ولكن ينبغي الالتفات في شأن حدودها، - وموقف الدين منها - الى أمور ثلاثة:
الأوّل: الحدود الذاتية للحرية.. والمراد بها: ما يتضح بالتأمل الواعي في مفهوم الحرية ذاتها.
الثاني: الحدود الفطرية للحرية.. والمراد بها: الحدود القانونية للحرية التي يفرضها القانون الفطري، مثل: محدوديتها بمقتضيات الحكمة وحقوق الآخرين.
الثالث: التحديدات الخاطئة للحرية مما يقع باسم الدين.
وتفصيل هذه الأمور كما يل:
الأمر الأوّل: الحدود الذاتيّة للحرّيّة
أما الأمر الأوّل: فقد يُظن أن في بعض الأمور تحديداً للحرية، مع أنه ليس كذلك.. ونحن نتعرض هنا لحالات ثلاث:
أ- التأثيرات السلوكية غير السالبة للحرية.
ب- عدم سلب الإلزام التشريعي - دون مجازاة – للحرية .
ت- النظرة الجامعة )غير المُجزّأة( إلى الحرية.
التأثيرات السلوكيّة السالبة للحرّيّة
أما الحالة الأولى فبيانها: أن الحرية قد تطلق على ما يقابل الإجبار العمليّ للإنسان على عمل ما.. وقد تطلق بمنظور أوسع؛ بحيث تقتضي: أن يتجنب من يقدر على التأثير على الآخر التأثير العمليّ على اختيار ذاك الآخر، ولو كان غير مقرون بالإجبار.. ويكون ذلك على أحد وجوه:
1- أن لا يبدي له أي موقف؛ لا على سبيل الطلب ولا على سبيل الإرشاد؛ لأ نه قد ينعج ويتضايق من النصيحة.
2- أن يبدي موقفاً على سبيل النصح والإرشاد؛ لا على سبيل الطلب أو الفرض.. فإن أخذ بالنصيحة فقد انتفع، وإن لم يفعل وتبيّن له سلبيات عدم الأخذ بالنصيحة لاحقاً كان في ذلك عظة له.
3- أن يبدي موقفاً على سبيل الترغيب من غير إلزام.. فإن استجاب فهو، وإن لم يستجب لم يتعامل معه بجفاء وامتعاض.
4- أن يبدي موقفاً على سبيل الإلزام من حيث الشكل ، ولكن إذا لم يستجب أغمض ولم ي تب أثراً .. فيكون الإلزام صورياً خالياً عن الحكم الجزائي .
هذا، والحرية التي تذكر منافاتها للقانون الفطري إنما هي ما يقابل الإجبار العمليّ .
والسرّ في ذلك: أن قيمة الحرية نابعة من قيمة الشعور الفطري للإنسان بالحاجة إليها؛ وهي بذلك تقتضي عدم مواجهة هذا الشعور بما يؤ دي الى إحساسه بالضيق والعناء بما يبلغ حد الإكراه والإجبار. ولكن هذا الشعور الفطري لا يمنع من عناية الإنسان بالتوصل الى العمل الأمثل بما لا يقود الى ذلك.. وذلك من خلال أساليب كثيرة، منها:
1- التربية الصالحة بالأدوات السليمة؛ سواء كانت التربية الأسر ية من قبل الوالدين للأولاد ، أم التربية التعليمية من قبل المعلمين للتلاميذ ، أم التربية الاجتماعية برعاية أفراد المجتمع للسلوكيات اللائقة في المنظر الاجتماع العام .
2- التشويق الى العمل الصائب؛ من خلال أدوات الفضل والإحسان.. فإن جل التعامل بين الناس فيما يحسن به بعضهم الى بعض آخر انما هو بالفضل؛ سواء في داخل الأسرة بين الزوجين ،والوالدين والأولاد ،والأقارب ، أم في المجتمع العا م من جهة الجوار والصداقة وسائر العلاقات الاجتماعية ؛ فلو شاء أحد أن يمتنع من بعض ما يسديه الى الآخرين من الفضل والإحسان لم يكن محظوراً.
3- النقد الاجتماعي الهادف.. فإن النقد والتمحيص من الأدوات العا مة للتأثير الاجتماعي . والمفروض أن يكون المرءحرا في تمحيص السلوكيات والظواهر الاجتماعية بما يؤدي الى ترشيدها وانضاجها.. وليس في ذلك نقض لحرية الآخرين في ممارستها وإن دى الى تركهم لها أو للإعلان بها؛ تجنباً لاستهجانها وتقبيحها .
وعليه: يمكن للمرء أن يدعو الى العمل الصحيح؛ بالتعامل الفاضل مع صاحبه، ويرَغِّب عن العمل الخاطئ؛ بالإيعاز بالانقطاع عنه، أو النقد البناء والهادف.. وليس في مثل ذلك انتهاك لحق الحرية في القرار، ولكن بعض الناس يخطئ في ذلك.
فهذه الأساليب أمثلة لكيفية التأثير والتعاون الاجتماعي على نشر الفضيلة وتجنب الخطيئة، من غير سلب لحرية الآخرين.. وقد حث الدين على ممارستها وفق ما يجري عليه العقلاء في حفظ المقاصد العقلائية.
عدم سلب الإلزام دون مجازاة للحرّيّة
وأما بالنسبة للحالة الثانية: عدم سلب الإلزام - دون مجازاة - للحرية :
فإ ن وجود الحكم الإلزامي في الشرع تجاه شيء كتحريم الكذب مثلا لا يقتضي اجبار الناس عملا على مراعاته؛ بجعل حكم جزائي دنيو ي على مخالفته.. ولا يلزم من عدم حماية الحكم المجعول بجزاء دنيو ي لغوية جعل الحكم التشريعي في هذه الحياة؛ وذلك:
أوّلا: انه يكفي في الحماية الجزائية التي ينبغي ألا يخلو عنها حكم الزامي ما يوعد بوقوعه في الحياة الأخرى بعد أن كان الإنسان باقياً بعد هذه الحياة .
ثانيا: ان هوية الحكم الشرعي أشبه بهوية القانون الفطري الذي يحكم به الضمير الإنساني منها بهوية القانون الوضعي بحسب ترجيح بعض أهل العلم .
ومن المعلوم: أن القانون الفطري وهو ما يقضي به الضمير الإنساني من تحسين بعض الممارسات وتقبيح بعضها ليس منوطاً بوجود حكم جزائي تشريعي ؛ فالضمير الإنساني يحكم بقبح ايذاء الناس بالسخرية والنميمة والانتقاص وغير ذلك، وان لم تكن هناك عقوبة محتملة على ممارسة ذلك؛ فهذا هديٌ جُعل في داخل الإنسان؛ يليق أن يجري عليه، ويسعى الى رعاية الآخرين له بمقدار ما تقتضيه الحكمة.
وعليه: يصح جعل الحكم الشرعي على وجه الإلزام؛ لأنه يمثل الحكمة اللازمة والفضيلة الواجبة.. فيمكن أن يندفع المرء لمراعاته اذا كان متحرياً لمثل ذلك، كما يشجع الآخرين كالآباء والمعلمين على تربية الأطفال والناشئين عليها؛بل يدخل ذلك في جملة وظائفهم الشرع ي ة.. وهو ما لا يتحقق فيما لو لم يجعل الحكم في مستوى الإلزام.
وإذا لاحظنا الأحكام الشرعية نجد أنها تختلف في مدى الإجبار العمليّ ،كما في الحالات التالية:
1- عدم الإجبار العمليّ على مراعاة الحكم أصلاً ؛ فيكون الحكم حينئذٍ أشبه بالحكم الأخلاقي.. ومن ثم لا يعاقب على الكذب، والغيبة، والنميمة ،وترك الفريضة من غير مجاهرة عقاباً دنيو ياً .
2- عدم تحري مدى وقوع المخالفة للحكم سراً ، فيما توقف الوقوف على مراعاته أو مخالفته على انتهاك خصوصية الناس والتجسس عليهم، كي يعاقبوا عليها.. وهذا حال أغلب الأحكام الشرعية. بل يُحرِّم الدين التجسس على الآخرين في جملة من الموارد سواء للحاكم أو للمجتمع العا م .. نعم، قد يكون ذلك سائغاً في بعض الأمور الخطيرة، مثل: ما يهدد الأمن العام تهديداً كبيراً.
وقد لا يشجع الدين على الفحص والتحري ولو فيما لا يتوقف على انتهاك الخصوصيات الشخصية ؛ بل يبني على حسن الظن وأصالة الصحة.. فإذا شك في شرعية العلاقة بين رجل وامرأة لاحتمال وجود زوج آخر للمرأة اكتُفيَ بقولها: انها لا زوج لها، ولا يتعين التحقيق في حالها، للتوصل الى مدى ارتكابها للخطيئة من عدمه.
3- عدم العقوبة على مخالفة الحكم الا في حال ثبوت المخالفة لها على وجه مؤكّد خاص ، حتى كأن الشارع انما يعاقب على الإعلان بها (1) .
وتوضيح ذلك: أن حماية الحكم بحكم جزائي على وجه مطلق يقتضي المجازاة على مخالفته في حال ثبوته بأية وسيلة قضائية مقبولة لدى العقلاء.. ولكن الملحوظ أن الشرع لم يُجز المعاقبة على مخالفة بعض الأحكام الشرعية اذا ثبتت من خلال علم القاضي وفق المؤشرات العقلائية فحسب؛ بل يحدد ذلك بثبوت الخطيئة بشهود ملتزمين يشهدون عليها شهادة حسية.
فهو مثلا لا يعاقب على عدم الإيمان باطناً اذا لم يبرزه صاحبه، ولا يعاقب على احراز الفواحش الا بشهودٍ عدول يقومون عليها وفق تفاصيل مذكورة في النصوص الدينية .. مما يؤدي الى ندرة ثبوتها والمعاقبة عليها.
4- عدم العقوبة على مخالفة الحكم في حال ثبوت الخطيئة على الشخص بعد اقلاعه عنها وتركه لها.
5- التعامل في جملة من الموارد مع ثبوت المعصية بشيء من التغاضي وحسن الظن ، كما اكتفى بوجود الشبهة لصاحب الخطيئة في درء العقاب عنه.. كما في الحديث المروي عن النبي (ص) : (ادرأوا الحدّ بالشبهات) (2)؛ فمن ادعى عذراً محتملاً في حقه فإنه يُعذر و يُرفع عنه العقاب وان كان خلاف الظاهر بعض الشيء .. وهذا مبدأ معروف فقهياً في أبواب الأحكام الجزائية الشرعية.
6- ان الدين قد يسمح بإلغاء العقوبات المقررة في ظروف وجود منشأ موضوعي يوجب انتشار الخطيئة، نظير الغاء حد السرقة في ظروف المجاعة.. كما في حادثة وقعت في زمان عمر بن الخطاب، وقد جرى عليه أهل البيت )ع( والصحابة.
7- قد يكون الإجبار العمليّ على مراعاة الحكم في كثير من الأحكام من صلاحيات الحاكم، الذي ينبغي عليه بطبيعة الحال تحي مقتضى الحكمة بملاحظة مجموع الجهات.
هذه لمحة عن العلاقة بين التشريع والحماية الجزائية التي تمثل الإجبار العملي عن مراعاة التشريع والتنفيذ بحسب النصوص الدينية.
وقد ظهر بذلك على الإجمال : أن التشريع الإلزامي ليس مقروناً بالإجبار العملي المطلق من خلال الوعيد بالحكم الجزائي على المخالفة دائماً.
ولا يسع المقام الخوض في النظرية العامة لأبعاد هذه العلاقة، والضابط المنظور في التشريع الديني فيها.. على ضوء النصوص الشرعية، والمناسبات الفطرية، والمقاصد والأساليب العا مة المعتمدة في الدين.
النظرة الجامعة للحرّيّة
وأما بالنسبة للحالة الثالثة: النظرة الجامعة للحرية :
فالمراد بذلك: أ ننا نجد أن احساس المرء بالحاجة الى تركه حراً قد يكون احساساً مؤقتاً؛ فإذا وقعت له مضاعفات سلبية تمنى لو لم يترك حراً في حينه.
ولذا نجد: أن كثيراً من الأولاد في البيئات المحافظة قد يبدون تضايقاً من الحدود التي يُوصَون بها، ولكن هم في مرحلة النضج يحمدونها ويُسَرُّون بها.
وهذه حالة مشهودة يقف عليها الإنسان فيما لو سأل الناس عن الحدود التربوية التي كان يفرضها الآباء في شبابهم؛ فإنه يجد كثيراً منهم سعيداً بها، ويرغب في مراعاة أولاده لمثلها، ويرى أن امتعاضه بعض الشيء منها في شبابه كان بالنظر الى الاندفاع في حينه، وهو يدرك بعد النضج والخبرة مدى الحكمة فيها.
ومن الضروري أن يُقيَّم شعور المرء بالحاجة الى الحرية في سلوكه العملي في ضوء شعوره المستقبلي المتوقع؛ بأن تحديد سلوكه كان أجدى له وأحمد عاقبة.
فهذه حدود ثلاثة للحرية يفرضها التمعن الواعي في مفهومها. ويبقى القول في الحدود الفطر ية للح ر ية والتحديدات الخاطئة لها .
الحدود الفطريّة للحرّيّة
الأمر الثاني: حول الحدود الفطرية للحرية، وهي ثلاثة:
1- محدودية اقتضاء الفطرة في حد ذاتها.
2- حدود العدالة (حقوق الآخرين) .
3- حدود الحكمة.
محدوديّة المستوى الفطريّ من الحرّيّة
الحدّ الأوّل: محدوديّة اقتضاء الفطرة في حدّ ذاتها، وتوضيحه: أن الدواعي الفطرية عامة هي فطرية في مستوى منها وتكون اكتسابية فيما يزيد على ذلك كما أو نوعا. مثلا : أصل داعي الأكل داع فطري إلا أن هذا الداعي يتطور من حيث الكم والكيف لدى كل إنسان وفق ظروفه وأحواله مما يؤدي إلى عادات واتجاهات غذائية مختلفة؛ فهذه العادات والاتجاهات ليست فطرية بخصوصياتها، وإنما هي دواعٍ مكتسبة وفق العوامل المتجددة.
والحال في الحرية كذلك؛ فإنّها في أصلها حاجة فطرية، ولكن امتداداتها حالة مكتسبة وفق العوامل المتجددة المختلفة باختلاف الظروف والأحوال. ومن ثم لا يكون تحديدها في المساحة المكتسبة وفق المقتضيات الحكيمة والفاضلة صدودا عن الاستجابة للفطرة ومجافيا معها. ومن ثم ينبغي التدقيق في هو ية المساحة التي يتمسك المرء بها هل هي من المساحة الفطرية أو المكتسبة؟
تحديد الحرّيّة بحقوق الآخرين
الحدّ الثاني: أن لا يصادم حقوق الآخرين.. وهذا التحديد مما يقضي به العقل على الإجمال؛ فإن الحرية المستحقة للمرء تتحدّد بعدم كونها إضرارا بالحقوق الخاصة أو العامة للآخرين، وإ لا كان تعسفا في استعمال الحق. ومن المعلوم أنه لا يجوز التو سع في استعمال الحق بما يضر بحقوق الآخرين.
فهناك حقوق خا صة وعامة ثابتة على الإنسان أو في المشهد الذي يريد المرء أن يتصرف بحريته فيه، ينبغي له بحكم العقل ودلالة الفطرة مراعاتها. وبيانه:
اولا: أمّا الحقوق الخاصّة: فهي مثل حقوق الجيران والوالدين.. فقد يرى المرء أن من مقتضيات حريته الشخصية أن يفعل في بيته ما يشاء من عمل ونشاط وممارسات ولا علاقة لجيرانه بذلك.
ولكن لا شك في أنه لا يصح للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يضر بالآخرين، وهذا من المبادئ القانونية المسلَّمة والتي لا خلاف فيها، وقد يندرج في التصرفات الضا رة أن يجعل الشخص بيته محلّا لأعمال غير لائقة ؛بما يهدد أخلاق الناشئين في بيوت الجيران.
وقد يعتقد المرء أيضا بأن منحقه أن يتصرف في نفسه ما شاء من غير ملاحظة هواجس أبويه في حفظه وحفظ أخلاقه ولا الاهتمام بالإحسان إليهما فيما يحتاجان إليه، ويتعامل معهما كسائر الناس.. وهذا أمر خاطئ؛ فإ ن للأبوين بإزاء دورهما في نشأة الإنسان وتربيته حقا في الإشفاق عليه والرعاية منه، فيجب على الإنسان مراعاة هذا الحق ما لم يبلغ حد التعسف منهما؛ وفي حال تعسفهما ينبغي أن لا يتجاوز الآداب اللائقة بهما، كما قال سبحانه في شأن دعوتهما الولد للشرك : {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلَا تُطِعهُمَا وَصَاحِبهُمَا فِي الدُّنيَا مَعرُوفا} (3) .
ثانيا: وأمّا الحقوق العامّة: فإ ن هناك انطباعات متفاوتة ومختلفة في شأنها..
1- فهناك انطباع يتو سع في المساحة المتعلقة بالحرية الشخصية توسعا كبيرا ، ولا يأبه بهواجس المجتمع الذي يقع السلوك بمشهد منه.
2- بينما هناك انطباع آخر يتوسع في مساحة حقوق المجتمع، ويرى أن كل تصرف للفرد في المشهد الاجتماعي لابد وأن يكون وفق قواعد مرضية تحكم هذا السلوك.
3- وهناك انطباع ثالث متوسط يراعي ضربا من التوازن بين الحرية التي هي من قبيل الحق الشخصي ورعاية المجتمع التي هي من قبيل الحق العا م.
وهذا الانطباع هو الأقرب إلى الفطرة والموافق للمنظور الفطري.
والوجه في ذلك: أن كل تصرف اجتماعي ف