نازحه بلا جدران
·
المشهد العراقي/انتخاب القيسي
الابواب وحدها هي الكفيلة بان تجعلني انام قريرة العين ، والجدران التي قد لا نشعر بأهميتها اليوم قد تغدو كالكنز الثمين الذي قد نفقده في يوم من الايام .
ماذا لو انك بين ليلة وضحاها تفقد كل شيء ولست أنت السبب بذلك ؟ سؤال يطرح نفسه عندما تشاهد النازحين .
كيف ستكون نظرتك اليهم ؟ قد تخاف ان تقترب منهم لخوفك من عدوى الامراض التي باتت تفتك بهم ، او لأنك لا تحب ان تكون بمكانهم .
تروي (حورية) حكايتها وحكاية الكثيرات من شبيهاتها في الحال ، فهي تكره تلك الكلمة المرابطة على الشفاه اليوم وهي انتي ( نازحه ) تقول ان تعريفها الحقيقي على أرض الواقع هو ( انتقال شخص من حلم جميل الى كابوس حقيقي لا مخرج منه ) .
( حورية ) كل يوم تتلمس بأناملها الخيمة التي تسكنها ، تحاول ان تغوص في خيال وحلم ولا تريد ان تصدق انه واقع مرير قد تعيشه لسنوات أو الى اخر العمر ، أيعقل ان اموت هكذا وأدفن في مكان بائس ؟ تصرخ بصمت وتقول لا أتذكر آخر مرة وضعت فيها مساحيق التجميل على وجهي ، أتمنى أن يكون (المرطب الخاص بي معي الآن وعطري المفضل وملابسي النظيفة ؟ أتتطلع الى يدي اجدها باتت خشنة الملمس وملابسي رثة وشحوب وجهي ، الذي يراني يعتقد إني تعديت الستين من عمري ، أتمنى للحظة ان تعود غرفتي لثواني فقط ثواني ليرجع الحلم الي مرة اخرى ، أبني علاء يركض وهو عائد من مدرسته نحوي ليحتضنني ويقول أمي اني جائع ، ويعود زوجي من عمله منهك ويطلب أن أعد له الطعام ، تبتسم وتقول : كنت أتذمر أحياناً ، أما الان فلن اتذمر اقسم اني لن اتذمر بعد الآن ،فقط عودي أيتها الأيام والليالي التي كنت بها إنسانة بجدران وسقف وأبواب موصده ، كم أكرهك يا هذه الأيام حيث الخيمة الباردة ، أنظر من حولي علاء لم يعد موجود ولا زوجي فقد قتلوا بالانفجار لا أسمع سوى صوت صداهم يرن بمسامعي ، كل شيء قد رحل معهم ، الذكريات ، والأمنيات ، حتى كرامتك ، عندما امسيت نازح يشفق الناس عليك ، وفي الليل البارد الطويل تنام وانت مستيقظ ، أشعر ان أحد يحاول ان يلمسني وأنا نائمه لا أعرف من هو بل اجده يهرب بسرعه قد يكون حيوان سائب او شاذ مجنون يريد ان ينهش لحمي ، أشعر إنني في غابة ومكان بلا أسوار تحميني .
أجد الناس يتراكضون نحو شيء اسمه (مساعدات) ، والذي يزورنا يشعرنا لوهلة إننا من كوكب اخر وعلامات الأسى تظهر على محياه ، وكأنه نسي إننا كنا نعيش مثله ، وفي بيت وجدران ، تراه يحاول الخروج من المخيم بسرعة لئلا يختنق وكأنه في كابوس ، وما أن تطأ قدمية خارج المكان يتنفس الصعداء ، لكن ماذا عنا ؟ نحن متى سنتنفس الصعداء ؟ نحن قد نغرق بسبب الامطار ، أو نموت من العطش في عز الحر أو من البرد في الشتاء القارس ، يكفي إن الذين احببتهم لم يعودوا موجودين ، كم أتوق لأيام كنت فيها بين تلك الجدران الدافئة ، تزحف الى مسامعي أحاديث النازحين فيما بينهم ، يصل الكلام دون الحاجة الى ان استرق السمع ، فليس للخيمة جدران تمنع الصوت من الوصول اليك ، أجد امرأة تتوسل زوجها أن تبيع إحدى كليتيها من أجل ان يخرجوا من المخيم البائس ويعيشوا في مسكن دافئ يوفر لهم الحياة الكريمة ، وصراخ ( حنان ) كل يوم لا يجعلني أنام فهي فتاة شبه مجنونة أكلتها الذئاب مراراً وتفرقت عائلتها ، كانت تصرخ وتشعر بالخوف دائما وتتمنى الموت ان يأتيها لينقذها ، وفي الخيمة الأخرى كان كان الجميع فرحين لأنهم حصلوا على ملابس مستعملة من بعض العوائل الغنية ، أما أم عمار فلديها أولاد كثر كل ليلة يتجمعون ليس لتسرد لهم قصص عن الشاطر حسن وعن الأميرة ست الحسن والجمال أو يحلمون بألعاب ، فقد نسوا تلك الاشياء أو الذهاب الى المنتزهات ، بل يتحدثون عن الحلم السراب فهم يتوقون ويشتاقون الى الأبواب التي تغلق وتوصد ، ويحلمون إنهم بعدها سيأكلون شيء اسمه (الجلي – الكيك – الشكولاتة ) إنها أمنيات مستحيلة باتت ، لكنهم كل يوم يعيشونه وكأنه حقيقة .
هنا تنتهي ( حورية ) من سرد الحلم الحقيقة وتقول سوف أغمض عيني وأقول لنفسي إنه حلم وليس حقيقة .
لكن ماذا عنك أنت الذي تسكن بيت له جدران وباب يوصد ويمنحك الأمان ، أغمض عينيك مثلها لكن بصورة أخرى ، فقد تجد نفسك بلا جدران في يوم من الايام .